أنيا بوجاريان: شابة تتحدى الصناعة لإنقاذ حياة الفقراء
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
أنيا بوجاريان: شابة تتحدى الصناعة لإنقاذ حياة الفقراء
في عمر السابعة عشرة، حين ينشغل أغلب المراهقين بالامتحانات، والهوايات، وأحلام المستقبل، كانت الطالبة الكندية أنيا بوجاريان (Anya Bouchard-Poirier) تفكّر في قضية إنسانية عميقة: كيف يمكن لطفل في دولة فقيرة أن ينجو من الفشل الكلوي إذا كان جهاز غسيل الكلى يكلّف ما يعادل دخل عائلته لسنوات؟
لم تكتفِ أنيا بالسؤال. بل قررت أن تصنع الجواب بيديها، في غرفة نومها الصغيرة بمدينة مونتريال، مسلّحة فقط بدفاتر ملاحظاتها، وفضولها العلمي، وقلبٍ لا يحتمل رؤية المعاناة دون تدخّل.
اللحظة التي غيّرت كل شيء
خلال تدريب صيفي في مستشفى للأطفال في مونتريال عام 2022، اطلّعت أنيا على واقع صادم: جهاز غسيل الكلى (Dialysis Machine) الذي يعتمد عليه ملايين المرضى حول العالم لتنقية دمائهم من السموم عند فشل الكلى، يبلغ سعره نحو 30,000 دولار أمريكي. هذا المبلغ، الذي قد يبدو معقولًا في الدول المتقدمة، يُعدّ ثروة طائلة في العديد من الدول النامية، حيث يعيش الملايين تحت خط الفقر.
تقول أنيا في مقابلة لاحقة: «رأيت طفلاً يبلغ من العمر 8 سنوات ينتظر غسيل الكلى، وسألتُ: لماذا لا يمكننا جعل هذا العلاج متاحًا للجميع؟». لم تُجبها التكنولوجيا، بل أجابها صمت النظام الصحي العالمي الذي يُهمّش الفقراء.
لكن بدل أن تستسلم للواقع، قررت أن تتحدى الصناعة نفسها.
من غرفة النوم إلى المختبر: رحلة الابتكار
بدأت أنيا مشروعها في صيف 2022، مستخدمة موارد محدودة للغاية. لم تكن تملك مختبرًا مجهزًا، ولا تمويلًا حكوميًا، ولا فريقًا بحثيًا. كل ما امتلكته كان:
- مكتبة مدرسية غنية بالمصادر العلمية
- دعم معلّميها في مدرسة "سيكفيلا" الثانوية
- أدوات بسيطة اشترتها من متاجر محلية
- إرادة لا تُقهَر
قضت أشهرًا بين التجارب والمحاولات، تُعيد التصميم مرارًا بعد كل فشل. كانت تدرس آلية عمل الغشاء شبه المنفذ (Semi-permeable membrane)، وديناميكا السوائل، ومبادئ الترشيح الكلوي، وتطبّقها باستخدام مواد منخفضة التكلفة مثل أنابيب بلاستيكية، وفلاتر طبية معدّلة، ومضخّات صغيرة.
بعد أكثر من 200 ساعة من العمل، وعشرات النماذج الفاشلة، نجحت أخيرًا في إنتاج نموذج أولي لجهاز غسيل كلى لا تتجاوز تكلفته 500 دولار أمريكي — أي أقل بستين مرة من الجهاز التقليدي.
— أنيا بوجاريان
الاختبار والنتائج الأولية
بمساعدة معلّمها في العلوم وفريق من الباحثين المتطوعين في جامعة مونتريال، تم اختبار نموذج أنيا في مختبر محاكاة باستخدام سوائل كيميائية تحاكي خصائص الدم البشري. أظهر الجهاز فعالية ملحوظة في إزالة اليوريا والكرياتينين — وهما المادتان الرئيسيتان اللتان تتراكمان في الدم عند فشل الكلى.
رغم أن الجهاز ما زال في مرحلة أولية، ولا يُستخدم على البشر بعد، إلا أن النتائج المخبرية فتحت الباب أمام إمكانية تطويره ليصبح بديلًا منخفض التكلفة، خصوصًا في المناطق التي تعاني من نقص في البنية التحتية الطبية.
ومن المهم التأكيد أن جهاز أنيا لا يهدف إلى استبدال الأجهزة الحديثة في المستشفيات المتقدمة، بل إلى توفير خيار طارئ أو مؤقت لملايين المرضى الذين لا يملكون أي خيار آخر.
التحدي الأكبر: ليس التقني، بل الأخلاقي
التحدي الحقيقي الذي واجهته أنيا لم يكن هندسيًا أو كيميائيًا، بل أخلاقيًا واجتماعيًا. فصناعة الأجهزة الطبية تُدار غالبًا بمنطق الربح، وليس بمنطق الحاجة الإنسانية. وعندما تُطرح فكرة جهاز بـ500 دولار، فإن أول من يشعر بالتهديد ليس المرضى، بل الشركات التي تحقق أرباحًا طائلة من بيع أجهزة بعشرات الآلاف.
لكن أنيا رفضت أن تُقيّد ابتكارها ببراءات اختراع باهظة أو شروط تجارية. بل أعلنت أن تصميمها سيكون مفتوح المصدر (Open Source)، بحيث يمكن لأي مهندس أو طبيب في أي دولة نامية أن يبني نسخته الخاصة دون دفع رسوم.
هذا القرار جعل من مشروعها ليس مجرد اختراع، بل حركة إنسانية ضد استغلال المرض.
الاعتراف العالمي والدعم المستقبلي
انتشرت قصة أنيا بسرعة عبر وسائل الإعلام الكندية والعالمية. وحصلت على جوائز عديدة، منها:
- جائزة "الشباب المبتكر" من مؤسسة العلوم الكندية (2023)
- الاعتراف من منظمة الصحة العالمية كمشروع واعد في مجال العدالة الصحية
- دعم مبدئي من جامعة مونتريال لتطوير النموذج إلى مرحلة سريرية
وتعمل حاليًا مع فريق بحثي لتحسين كفاءة الجهاز، وضمان سلامته، وتجهيزه للاختبارات السريرية الأولية، بتمويل جماعي من متبرعين يؤمنون بأن "الابتكار يجب أن يخدم الإنسان، لا السوق".
درسٌ في الإنسانية: العمر لا يُقاس بالسنوات
قصة أنيا بوجاريان ليست مجرد قصة نجاح علمي لفتاة موهوبة. إنها تذكير قوي بأن:
- العمر لا يُقاس بالسنوات، بل بالتأثير. ففي 17 ربيعًا، أنقذت أمل ملايين.
- العلم الحقيقي هو الذي يلامس الألم البشري. وليس الذي يُحبس في أوراق بحثية أو يُباع في متاجر فاخرة.
- الرحمة يمكن أن تكون محركًا للابتكار. فقلبٌ يشعر بمعاناة الآخر، يصنع حلولًا لا يراها العقل البارد.
في عالم يُقدّس الربح ويُهمش الضعفاء، تأتي أنيا كنسمة أمل: شابة لا تملك سلطة، ولا ثروة، ولا منصبًا، لكنها تملك شيئًا أقوى: الإيمان بأن التغيير ممكن.
المصادر والمراجع
- Canadian Broadcasting Corporation (CBC). (2023). Teen invents low-cost dialysis machine to help patients in developing countries. cbc.ca
- Global News Canada. (2023). Montreal teen’s $500 dialysis prototype could save lives worldwide. globalnews.ca
- World Health Organization (WHO). (2022). Access to dialysis therapy in low-resource settings. who.int
- University of Montreal – Faculty of Medicine. (2023). Open-Source Medical Devices Initiative. umontreal.ca
- National Kidney Foundation. (2023). Cost of Dialysis Treatment Worldwide. kidney.org
تعليقات