حكمة الجدة ووصفات المستقبل: رحلة عبر الزمن لاكتشاف أسرار الصحة في قلب العالم العربي
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
حكمة الجدة ووصفات المستقبل: رحلة عبر الزمن لاكتشاف أسرار الصحة في قلب العالم العربي
أول مرة فهمتُ فيها معنى الشفاء الحقيقي، لم أكن في مستشفى. كنت جاثية على أرض مطبخٍ مشمس في قرية قرب نابلس، أراقب جدّتي تطحن الزعتر بمهدسها. كانت يداها — المتغضّنتان بالتهاب المفاصل لكنهما ثابتتان كالصخر — تتحركان بإيقاع أقدم من الكتب الطبية. وقالت لي وهي تمدّني بكوب من شاي الميرمية المحلّى بتمرة واحدة: «الجسد يتذكّر ما ينساه العقل». كنتُ عائدة من كلية الطب، مملوءةً بالدبلومات والتشخيصات، لكنني شعرتُ حينها بالخجل من يقينها الهادئ.
وبعد سنوات، وأنا أمارس مهنة الطب، أجد نفسي أعود إلى ذلك المطبخ مرارًا—ليس جسديًّا، بل في تأملي. ففي منطقةٍ كانت طرقها التجارية القديمة تحمل التوابل والحكايات عبر الصحارى والبحار، تُعدّ تقاليدنا الصحية طبقاتٍ عميقة كعمق الأرض نفسها. ومع ذلك، في سعينا نحو الحداثة، بدأنا نعامل تلك التقاليد كقطع أثرية—جميلة، لكنها من زمنٍ قد ولّى.
شجرة الزيتون والسمّاعة الطبية
لنأخذ زيت الزيتون مثالًا. في العالم العربي، ليس مجرد بهار أو سائل للطهي، بل رمز للسلام والصمود والوفور. كانت جدّتي تستخدمه لكل شيء: لتهدئة السعال، لتليين الكعوب المتشققة، بل وحتى لدهن المواليد الجدد. واليوم، يؤكد العلم ما عرفته غريزتها: إن زيت الزيتون البكر الممتاز غنيٌّ بالبوليفينولات والأحماض الدهنية الأحادية غير المشبعة التي تقلل الالتهاب، وتخفض الكوليسترول الضار، وقد تحمي حتى من التراجع المعرفي.
ولكن كم مرة نلجأ اليوم إلى الزيوت النباتية المصنعة أو مشروبات «الصحة» السكرية بدلًا منه؟ ليس لأننا نشكّك في تراثنا، بل لأننا تعلّمنا أن التقدّم يعني الاستبدال—ليس التكامل.
«الطب الحديث يخبرنا كيف يعمل الجسد. أمّا أسلافنا فأخبرونا لماذا يهمّ ذلك.»
الصيام: أكثر من مجرد حبّة دواء
ثم هناك الصيام. في منطقتنا، الصيام () ركنٌ روحي في رمضان، لكن آثاره الصحية تمتدّ أبعد من ذلك الشهر. فنظام الصيام المتقطّع—الذي يُعدّ اليوم موضةً في عيادات وادي السيليكون—يشبه تمامًا نمط الأكل الطبيعي الذي مارسه أجدادنا لقرون: سحور خفيف مبكر، ثم فترة صيام طويلة، يليها إفطار واعٍ مع الحساء والتمور والامتنان.
أظهرت دراساتٌ حديثة أن مثل هذه الأنماط قد تحسّن حساسية الإنسولين، وتدعم تنوع ميكروبيوم الأمعاء، بل وقد تحفّز عمليات إصلاح خلوية مثل «الالتهام الذاتي» (autophagy). لكن ما يجعل نسختنا فريدة ليس فقط التوقيت، بل النيّة. فالصيام عندنا ليس عمليةً أيضية فحسب، بل هو فعل جماعي، تأملي، وإنساني بعمق.
أتذكّر جلوسي مع مرضي في رمضان، وأراهم يديرون مرض السكري أو ارتفاع الضغط ليس بنظام غذائي جامد، بل بوجبات مشتركة، وأمسيات هادئة، وشعورٍ متجدّد بالهدف. كانت نتائج تحاليلهم تتحسّن—ليس لأنهم «حسّنوا نافذة الصيام»، بل لأنهم شعروا بأنهم متّصلون.
فن البطء المفقود
غالبًا ما يعالج الطب الحديث الأعراض بمعزلٍ عن السياق. صداع؟ خذ حبّة. قلق؟ وصفة أخرى. لكن في الطرق القديمة—سواء في درب مغربي، أو قرية جبلية لبنانية، أو خيمة بدويّة—كان السؤال الأول ليس: «أين الألم؟» بل: «كيف تعيش؟»
هناك سببٌ لامتداد الوجبات العربية لساعات: شوربة العدس، والخبز المشترك، والحكايات بين اللقمات. هذا البطء ليس تضييعًا للوقت، بل هو بيولوجيا. فالأكل بهدوء يحسّن الهضم، وينظّم هرمونات الشبع مثل الليبتين، ويقلّل الالتهاب الناتج عن التوتر.
وماذا عن القهوة؟ لا أقصد النسخة السكرية في المقاهي، بل القهوة المحمصة ببطء مع الهيل، المقدّمة في فناجين صغيرة، وتُحتسى بوجودٍ واعٍ. ليست المسألة كافيين، بل طقس. توقّف. نفس عميق. لحظة لإعادة التوازن.
حين يلتقي التراث بالعلم
دعني أوضح: لستُ أدعو إلى التخلّي عن الطب القائم على الأدلة. ففي عيادتي، رأيتُ المضادات الحيوية تنقذ الأرواح، والتصوير يكشف الأورام قبل ظهور الأعراض. لكن ماذا لو توقفنا عن اعتبار التراث والعلم طرفين متقابلين، وبدأنا ننظر إليهما كشريكين؟
خذ الحجامة مثلًا. كانت تُرفض سابقًا كـ«طب شعبي»، أما اليوم فتُدرَس لفعاليتها المحتملة في تخفيف الألم وتحسين الدورة الدموية. ليس كل ما يُقال عنها مثبتًا—لكن هذا لا يعني أن نلقي بالممارسة كلها. بل نسأل: أي أجزاء منها تحمل الحقيقة؟ كيف نختبرها باحترام؟
وكذلك حبة البركة: فقد ثبت في المختبرات فعاليتها كمضاد أكسدة ومضاد التهاب. لكن قوتها الحقيقية قد تكمن في طريقة استخدامها—بالعناية، الانتظام، والإيمان.
وصفةٌ للصحة الشاملة
فما الذي تبدو عليه الصحة الشاملة في العالم العربي اليوم؟ إنها ليست اختيارًا بين مستشفى وبستان أعشاب. بل هي بناء جسر بينهما.
- أعد الاتصال بالطعام كدواء. ازرع النعناع على شرفتك. اطبخ بالكمون والكركم والثوم—ليس فقط للطعم، بل لوظيفته.
- كرّم الإيقاع بدل الجمود. دع وجباتك تكون لحظات تواصل، لا محطات تزود.
- تبنّ الحكمة الوقائية. التطهير الموسمي بماء الليمون؟ المشي بعد العشاء؟ هذه ليست موضة—بل ذكاء موروث.
- اسأل كبارك. سجّل وصفاتهم. ليس لتتبعها أعمى، بل لتفهم السياق—السبب وراء الفعل.
والأهم من ذلك كله، تذكّر: الصحة ليست مجرد غياب المرض. بل هي وجود الانتماء. والمعنى. ويدٌ دافئة على جبينك حين تحترق بالحمى. وصوتٌ يقول: «كل يا حبيبي—لقد نحفت.»
المطبخ لا يزال مفتوحًا
الصيف الماضي، أخذتُ ابنتي إلى تلك القرية نفسها قرب نابلس. إنها في السادسة، وتدعو جدّتي «تِتة الشافية». بينما كنّ يسحقن النعناع الجاف معًا، راقبتُ يديها الصغيرتين تحاكيان حركات العجوز. لم تكن هناك حاجة لكلمات. الدرس كان في الفعل.
ربما أعظم سر صحي في منطقتنا ليس في عشبة نادرة أو وصفة سرية. بل في الاستمرارية—الخيط غير المنقطع بين الأجيال الذي يقول: «لقد نجونا من الصحارى والجدب والتشتت. نحن نعرف كيف نعتني.»
لذا دعونا لا نودع حكمتنا في متاحف الحنين. بل نُحييها في مطابخنا، وعياداتنا، وحواراتنا. دع شجرة الزيتون تقف إلى جانب السمّاعة الطبية. دع العلم يستمع إلى الحكايا. وليبدأ الشفاء—الشفاء الحقيقي—من جديد، ليس في مختبر، بل في بيت.
فبكلمات جدّتي التي لا تنسى: «أفضل دواء ينمو حيث تمشي قدماك.»
تعليقات